Logo
تابعونا على

ظاهرة المحظرة الموريتانية وامتداداتها الإشعاعية

إذا كانت البادية ربيبة الجهل والتخلف ونقيض الحضارة والمدنية فإن ظاهرة المحظرة الموريتانية التي نشأت في أحضان مجتمع بدوي، وعرفت ازدهارا ضاهي مؤسسات إسلامية ثقافية عريقة مثل الجامع الأزهري والقرويين جديرة بالدراسة، وبرهان ساطع على نسبية الأحكام.

والمحظرة الموريتانية مؤسسة طريفة حقا، فاللوح الخشبي وقلم السيال والحبر المصنوع من مشتقات معدنية محلية كلها أدوات بسيطة، وأصيلة قضت بها عبقرية الموريتاني على دياجير الجهل، وحققت بها ما حققته كبريات المدارس الإسلامية بما امتلكت من وسائل علمية متطورة حينها، وإذا كان طالب العلم في المشرق وحتى في بعض مناطق المغرب العربي يتخصص في فن معين فإن المحظري الموريتاني يأخذ من كل فن بطرف ليصبح موسوعة معارف، وكأن لسان حاله ينشد:

من كل فن تعلم تبلغ الأملا ......ولا يكن لك علم واحد شغلا

فالنحل لما رعت من كل يانعة .....أبدت لنا النيرين الشهد و العسلا

ومع ذلك فإن بعض المحظريين قد يكون أكثر شغفا بفن معين مما يجعله أكثر خبرة وشهرة في ذلك الفن.

وقد تميز أبناء المحظرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر اذ لا يخرج الطالب المحظري إلا بعد حفظ أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية والإسلامية ، ويدل الإنتاج الثقافي الضخم الذي خلفه علماؤنا الأجلاء والذي شمل كافة مناحي الثقافة العربية والإسلامية وحتى العلوم البحتة من طب، وفلك، وحساب، وجغرافيا على مدى الازدهار الذي وصلت إليه المحظرة الشنقيطية .

وقد اشتهر أبناء المحظرة الموريتانية في المشرق وفي بلاد المغرب العربي بسعة العلم والذكاء مما جعلهم يتصدرون هنالك للفتوى، ومع كثرة الأسماء فإننا لا يمكن أن نذكر المحظرة إلا ونتذكر بكل اعتزاز وفخر أعلاما مثل:لمجيدري بن حبل ، سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، محمد يحيى الولاتي، محمد محمود بن اتلاميد، أحمد الأمين الشنقيطي ، الشيخ آب بن أخطور، أبناء ميابه، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم.

كما أن النضهة الأدبية التي عرفتها هذه البلاد وكان القرن الثالث عشر الهجري قرنها الذهبي ليست إلا احدى حسنات المحظرة، فالأسماء الشعرية المعروفة في موريتانيا وإلى اليوم إنما نشأت وترعرت في حضن المحظرة ومنها أخذت مادتها الثقافية وفصاحتها ولسانها العربي الأصيل.

وبفضل هذا الصرح الحضاري المتميز أنتشر الإسلام وتمدد إلى تخوم الغابة الإفريقية، وأوروبا عبر الأندلس وبقدر ما أنتشر الإسلام بقدر ما انشرت اللغة العربية.

ولم يعرف تأثير المحظرة في إفريقيا أي نوع من أنواع العنف وإنما كانت ثقافة الحوار والانفتاح والاستجابة الطوعية هي التي طبعت نوعية التأثير في شتى امتداداته الإشعاعية.